في ظل التحولات العميقة التي تعرفها المنظومة الصحية المغربية، وعلى ضوء التوجيهات الملكية السامية وتوصيات منظمة الصحة العالمية (2023–2030)، برزت الحاجة الملحة إلى النهوض بمهن الصحة الداعمة، وفي مقدمتها مهن طب الأسنان ذات التكوين المتوسط، التي بدأت تشق طريقها بثبات نحو اعتراف مؤسساتي ومهني واضح.
وقد شكّل تنظيم المؤتمر الوطني الأول لمهن طب الأسنان ذات التكوين المتوسط لحظة فارقة في هذا المسار، حيث اعتُبر فضاء مؤسساتيًا للنقاش والتأطير، يعكس الانخراط الفعلي في تنزيل مقتضيات القانون الإطار 06.22 المتعلق بإصلاح المنظومة الصحية الوطنية.
خلفيات تنظيم المؤتمر: مرجعيات وطنية ودولية
جاء تنظيم هذا الحدث المهني استنادًا إلى توجهات رسمية واضحة، تسعى إلى الارتقاء بجودة التكوين المهني وجعله رافعة للتشغيل والإدماج، وهو ما أكد عليه الخطاب الملكي في مناسبات متعددة. كما يستمد المؤتمر شرعيته من توصيات منظمة الصحة العالمية التي تشدد على ضرورة إدماج وتأطير المهن الصحية المساندة (Allied Health Professions)، وفي طليعتها أخصائيو صحة الفم والأسنان وأخصائيو تعويض الأسنان.
هذه الفئات تشتغل فعليًا داخل عيادات خاصة، بعد حصولها على شهادات تقني متخصص في إطار قانون التكوين المهني الخاص رقم 13.00، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في الوقاية، الدعم التقني، ومواكبة العلاجات، وبالتالي فإن تأطيرها وتقنينها يندرج ضمن مسؤوليات المنظومة الصحية ككل، ولا ينبغي أن يخضع لمنطق الهيمنة المهنية.
إشارة إلى البلاغ الاستنكاري ومحاولة التأطير الموضوعي
وفي سياق مواكبة النقاش العمومي الذي أعقب تنظيم المؤتمر، صدر بلاغ استنكاري عن النقابة المهنية لأطباء الأسنان – آسفي، عبّر عن تحفظات تجاه هذا التوجه، غير أن جهات منظمة للمؤتمر أوضحت في بلاغ توضيحي أن المهن المشار إليها ليست وليدة اللحظة، بل قائمة ومؤطرة بقوانين قائمة، وتمارس على أرض الواقع ضمن العيادات، وتؤدي أدوارًا عملية لا تقل أهمية عن غيرها في تأمين استمرارية العلاج وحماية صحة المواطن.
كما اعتبر ذات البلاغ أن التشكيك في هذه التكوينات يشكل ضربًا لمبدأ التأطير الأكاديمي، وإقصاءً غير مبرر لفئة تشتغل ضمن الأطر القانونية، موضحًا أن محاولات الاحتكار التي يعبّر عنها بعض المهنيين لا تخدم مصلحة الصحة العامة، بل تعكس رغبة في فرض وصاية لا يخولها لا القانون ولا المنطق الإصلاحي الحالي.
ملاحظات حول الممارسة داخل القطاع
أشار البلاغ ذاته إلى عدد من الاختلالات التي تعاني منها مهنة جراحة الأسنان، سواء تعلق الأمر بغياب احترام مدونة الأخلاقيات، أو بممارسات غير قانونية مثل إتاحة الأختام المهنية لمزاولين غير مرخصين، أو جمع اختصاصات متعددة داخل عيادات دون تكوين أكاديمي معترف به، مما يُعد تهديدًا للمنظومة الصحية وللعدالة الاجتماعية في الاستفادة من صناديق التغطية الصحية.
ودعا إلى ضرورة فتح ورش حقيقي لتنظيم القطاع، يُعلي من شأن الكفاءة والشفافية، ويكرّس مبدأ تكافؤ الفرص، كما طالب بإشراك كافة الفاعلين في حوار مسؤول، بدل الاكتفاء بمواقف انفرادية تسعى إلى احتكار تمثيلية قطاع واسع ومتنوع المكونات.
نحو فهم شمولي لمهن طب الأسنان
أكد البلاغ في خاتمته أن مهن طب الأسنان لا تقتصر على جراحة الأسنان وحدها، بل تشمل تخصصات أخرى تمارس ضمن ترخيص قانوني، على غرار النماذج المعتمدة دوليًا، حيث تشكّل الفرق الصحية نسيجًا متكاملاً يضم أطباء وممرضين وتقنيين، كلٌّ يضطلع بمهمة محددة داخل منظومة متكاملة.