القائمة الرئيسية

الصفحات

وفي حضرة ملك الموت, هل من فسحة للأمل؟

 



هي تسند رأسها على طرف سريره ,تحاول وبجهد عميق أن تغالب النوم الذي يحاول يسرقها من هاته اللحظة, تضع يده بين يديها الصغيرتين وتضغط عليها بحنان بالغ. تعتقد أن ملك الموت قد يباغتها في أية لحظة ويأخذ بيده الى عالم اخر خارج هذا العالم الذي نعتقد الى حد ما أننا تمكننا من أسراره وكشفنا خباياه...

لقد كانت جميلة وبريئة وهي تنظر اليه. مؤلم هذا المشهد بقدر روعته, مؤلم أن ترى فتاة بهذا العمر تمر بتجربة مماثلة ومع ذلك تقاوم وتتشبث بالأمل.

لقد كانت جالسة على الارض الباردة  قرب سريره الصدئ بعد أن جمعت ثيابه البالية في رزمة و أحكمت عقدتها جيدا وجلست عليها قربه تاركة السرير المقابل لأمها المريضة نفسيا الصامتة والمحدقة في الفراغ المقابل لها .

بقيت الصغيرة قرب أباها ترفع رأسها طوال الوقت رغم ألم رقبتها وتنظر اليه قدر ما استطاعت, تحاول أن تروي عينيها من ضمأ قد يحل بهما في وقت لاحق . تحدق الى تلك العينان اللتان تخاف أن تفارقهما في أية لحظة ,تغالب أفكارها من جديد بلمحة أمل أنه قد يشفى ويعود كسابق عهده ذاك "الأب" المثالي ذو القلب الحنون المتجبر على ضعف جسده والمتعالي عن قلة ذات اليد .

لقد كانت رائحة الموت تملئ الغرفة وقد كنا جميعا ندرك ذلك لكنها كانت تصارع العبرات التي تطل من عينيها البريئتين و تتشبث بالأمل أكثر من أي كائن اخر فوق البسيطة.تدرك أنها لا تمتلك سوى أب واحد وعليها ألا تفقده. فالفقدان له وقع  أقوى وأكثر ألما على طفلة بهذا العمر أو على أي انسان اخر بأي عمر كان أكثر من أي حدث اخر ..

الاهي كم مزقتني النظرات التي كان يرمقها بها هو الاخر. صحيح أنه فقد القدرة على الكلام لكنه كان يخاطبها بأكثر لغات الكون عمقا و بساطة انها  لغة العنين .

يدرك جيدا أن حديث الأب وابنته لا يحتاج لغة كي يفهم فمجرد نظرات صادقة نابعة من عمق حنانه تفي بالغرض... وقد كانت كافية حقا.

ضمنيا كان يدرك أنها مجرد أيام او ربما أقل من ذلك بكثير  ويغادر في حال سبيله ليواجه أحد أسرار الكون غموضا ''العالم الاخر'' أو حياة ما بعد الموت -ان وجدت أساسا- لكنه مرغم على أن يتشبث بالأمل الذي يشع من مقلتي صغيرته فاصرارها لم يترك له خيار ولم يترك لي انا الاخرى أي خيار سوى ان أؤمن به وأدعو الله أن يخفف عنه ألمه. 

دخلت الغرفة في اليوم التالي ووجدتها تحيط يديها برأسه المشتعل شيبا وتقرب أذنها من فمه تحاول وبجهد بالغ سماع ما يحاول المسكين قوله ,لكنه لا يستطيع ... يقاوم ضعفه بشدة فتخور قواه ويستسلم بعد محاولات قليلة, فنضاله الاكبر في هاتها اللحظة هو الحصول على أكسجين أكثر مما تعطيه تلك القنينة اللعينة الصدئة  المركونة على يمينه.

تضع على جبينه قبلة صادقة...وتسمح لدمعة أن تبلل خدها علها تخفف ألم الفراق قليلا. فأباها راحل لا محالة وماهي الا مسألة وقت. تحاول ان تقنع نفسها ان الموت سيكون أرحم من كومة العذاب هاته, لكنها لا تقدر على فراقه ,تتمنى لو تستطيع اعطاءه نبضة من نبضات قلبها لكي لا يستقيم ذاك الخط على الجهاز المهترئ المعلق على الحائط .وتدعو الله الا يستعجل الرحيل... فهو أباها والحياة لا تحلو دونه.

أتذكر ذاك اليوم كما لو كان بالأمس القريب, لقد كان مميزا والمميز فيه حقا هو أنها أمطرت. أمطرت السماء مطرا خفيفا كما لم تفعل منذ مدة ليست بالقصيرة. أمطرت وبللت أرضنا المشتاقة لقطرات تتغلغل في اعماقها فتنفض عنها اليأس وتبث فيها الروح ,أمطرت وبللت في الحقيقة أرواحنا الجائعة ,ارواحنا المتسخة والمتلهفة لقطرات طاهرة تزيل عنها عفن الخطايا المتوضع بين الزوايا هنا وهناك...

كنت لحظتها عند باب المصلحة التي كما كان يسميها بعض الزملاء أنداك خلال فترة التدريب بشكل ساخر "لهيه" ."لهيه " حيث يرقد العجائز والشيوخ ذوي الامراض المستعصية والمزمنة .. و أولائك الميئوس من علاجهم كي ينتظرو زيارة صاحب السمو ملك الموت كي يأخذهم الى ال"لهيه" الاخر الأكثر غموضا أو الأكثر رحمة "ربما".

كنت أجلس كما هو شأن أغلب زملائي نشاهد هطول المطر فانضمت الصغير لنا لتجلس قربنا فوق ذاك الكرسي البارد وبقينا نشاهد المطر بصمت وكل منا تضع يديها في جيبي سترتها محاولة تفادي تجمدهما من صقيع الجو أنذاك...حاولت كسر ذاك الصمت الباسط أجنحته على المكان  ففتحت محادثة علني اخرجها من جو الحزن ذاك قليلا من قبيل" كم عمرك ؟" فاجابت 16" و مدينتها او مستواها الدراسي...الخ, أي شيء من شأنه أن يجعلها تثرثر فتكسر صمت  قوقعتها ولو قليلا ,لكن محاولاتي باءت بالفشل فقد كانت تجيب بشكل محدود لتسرح بنظراتها من جديد. بقيت تحدق فالساحة قليلا لتقطع الصمت بسؤال دون مقدمات'' هل تستقطبون حالات مثل حالة أبي؟''

نظرت اليها مجيبة بشكل محدود :نعم بين الحين والاخر.

صمتت برهة من الزمن ثم سألت من جديد: وهل يتماثلون للشفاء؟.

حاولت بسذاجة مطلقة أن أبعدها عن السؤال وبدأت أحكي لها عن قريب لي كان مصابا بحالة مشابهة لحالة أبيها بعد عقود من العمل في مناجم بلجيكا, لكن يبدو أنها لم تكن تهتم بالتفاصيل بقدر ما كانت تتطلع للنهاية لتعرف ان كان قريبي قد شفي أم لا...ومع ذلك كنت أراوغ كي لا اصل لتلك النهاية الحزينة وكي لا تعيد السؤال السالف الذكر من جديد .

انتظرتني بصبر الى أن اكملت قصة قريبي تلك لتعيد السؤال : و هل شفي عمك المسكين؟

نظرت بصمت  الى ذاك الوجه القمري ذو الجمال الملائكي  المصقول والى تلك العينين البنيتين ذاتا الجمال العربي الأصيل  فبتلك النظرات الجادة  والمصممة على الحصول على اجابة لم يكن لي مفر. أشحت بنظري الى الجهة المقابلة وأجبت " نعم ...نعم.. لقد شفي" وصمت.

  أو تعلم يا صديقي القارئ مؤلم أن تكذب على أحدهم وأنت تنظر في عينيه,

بل وقاحة أن تحدق في عينيه البريئتين وتعطيه أملا زائفا.

ولكن صدقني تصرف جبان كهذا من قبلي كان أخف وطأة من قطع خيط الأمل ذاك الذي تأبى هاته الصغيرة أن تتركه ينقطع .

مؤلم يا صديقي أن تكذب على أحدهم في سياق مشابه. نعم أقر أن ذلك مؤلم, مؤلم أن يعاتبك هذا الضمير اللعين طوال الوقت بسبب فعل كهذا.


ولكنني مقتنعة هاته المرة أكثر من أي وقت مضى بما فعلت وفي الحقيقة لست نادمة على كذبتي تلك 

 ولأصدقك القول أكثر فقد كذبت أكثر من مرة في حياتي ولكن هاته كانت واحدة من أتفه محاولاتي أو ربما الأكثر سذاجة.

انصرفت بعدها في حال سبيلي فقد كانت فترة تدريبي قد انتهت منذ حوالي ساعة لأعود بعد نهاية الأسبوع و أذهب مباشرة الى تلك الغرفة كي أطلع على حال ذاك المريض أو بمعنى أدق لأرى ان كان ما يزال يصارع الموت .فوجدتها فارغة و السرير بملاءة جديدة وخيل الي ذاك المشهد  المألوف للعجوز المحتضر و وجه الصغيرة التي تحدق في عينيه ,الله وحده أعلم بحالها الأن وهي تحاول تقبل فكرة الفقدان, وهي تحاول أن تصدق ان هذا واقع وليس حلم مزعج تنتظر ان تستيقظ منه ...

صعب أن أصف لك الفقدان يا صديقي ,ففي لحظة يرفعنا الى أعلى قليلا ثم يلقي بنا بأقصى جهد ممكن نحو الأرض. فهو يجعل أرواحنا تشيخ قرونا وأعيننا تذبل و نور وجوهنا يضمحل... لنصبح أشباحا بشرية تحاول أن تداري قبحها بابتسامات زائفة و تخفي انهيارها وراء أحاديث سمجة حينما يغلبها ضعف المواقف لحظة تذكر الأحباء الذين فقدناهم دون وداع.

غريب أمر الموت حقا ؟ قد يمهلك أياما أو شهورا لتتصالح مع ذاتك أولا و كي تحظى بلحظات وداع على مهل مع أقربائك وكي تنسى خلافاتك مع أعدائك وتتجاوزها. و أهم شيء كي تدعو الله مناجيا اياه في فرصتك الأخيرة أن يتجاوز عن خطاياك وينعم عليك برحيل مطمئن وحساب يسير و جزاء بالنعيم.

أو قد يباغتك على حين غرة فيقبض روحك الى مثواها الأخير.

قد يجدك صدفة أثناء جولته بين أروقة المشفى وانت منشغل بعلاج أحدهم أو تتسابق مع الثواني لإنقاذ حياته  فيمسك رأسك بين يديه دون أن تشعر بذلك ويقرب وجهه من أنفاسك ويحدق فيك مليا وكله رغبة في أن يقبض روحك الان قبل أي وقت اخر, لكنه يتركك تنفلت من بين يديه ببطء مخيف قائلا " لم يحن وقتك بعد يا صغيري فاليوم ليس يومك...نلتقي لاحقا'' .

ويمضي في حال سبيله باحثا عن الروح التي تنتظره اليوم ليذهب بها بعيدا تاركا دموعا وراءه وألما ينخر في الأرواح.

تاركا جراحا أبدا لن تندمل ...

تاركا أعيادا بدموع...

 و أفراحا أبدا لن تكتمل ...

فاللهم ان كان لابد من الرحيل دون وداع فخذنا اللهم اليك و أنت راض عنا و أرحم أرواحنا والحقنا بالصالحين.


بقلم : رباب بولودن           

ممرضة، طالبة بسلك الماستر.

reaction:

تعليقات